الحق في القيادة الآمنة.. اختلاف اللغة وضعف التدريب يقتل الآلاف سنويًا في أمريكا

845 ألف قتيل منذ 2000

الحق في القيادة الآمنة.. اختلاف اللغة وضعف التدريب يقتل الآلاف سنويًا في أمريكا
حادث مروري - أرشيف

في بلد مثل الولايات المتحدة، حيث تُعد الطرق جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية، تتعاظم المأساة حين تتحول هذه الطرق إلى مصدر دائم للموت،  في تقرير حديث لصحيفة واشنطن بوست، يستعرض الكاتب جوش ماكس واقعًا صادمًا.. أكثر من 845 ألف شخص لقوا حتفهم على الطرق الأمريكية منذ عام 2000، الرقم، كما يقول، يعادل 280 هجومًا بحجم كارثة مركز التجارة العالمي. ما يجعل هذا الرقم أكثر مأساوية، أن الغالبية العظمى من هذه الحوادث يمكن تفاديها، إذ تُعزى 94% منها إلى أخطاء بشرية.

ويطرح ماكس سؤالًا جوهريًا: هل نحن سائقون سيؤون؟ وهو لا يشير إلى تهور فردي فحسب، بل إلى منظومة تدريب فاشلة تُخرّج سائقين يفتقرون إلى المهارات الأساسية للتعامل مع مواقف القيادة المعقدة، ففي معظم الولايات الأمريكية، يُكتفى باختبار كتابي بسيط واختبار عملي لا يتجاوز 15 دقيقة للحصول على رخصة قيادة، لا تدريب على القيادة في الأحوال الجوية السيئة، ولا تجارب على تفادي الانزلاق أو القيادة على الطرق السريعة المكتظة.

ويضيف ماكس، وهو صحفي متخصص في السيارات منذ أكثر من 25 عامًا، أن السيارات باتت اليوم أكثر أمانًا بفضل تقنيات الصناعة الحديثة، لكن المشكلة تكمن في السائقين لا في المركبات، كما أن التركيز يجب أن يتحول من رد الفعل بعد الحادثة إلى الوقاية قبل وقوعها، وهو ما يتطلب إعادة نظر جذرية في طرق تدريب السائقين ومعايير إصدار الرخص.

مشكلة اللغة

في مدينة سبرينغفيلد بولاية أوهايو، تكشف "الغارديان" عن وجه آخر لأزمة سلامة الطرق، لكن من منظور حقوقي وإنساني، فبينما تُحمّل الرواية العامة المهاجرين الهايتيين مسؤولية حوادث مرورية متكررة، يتضح من التحقيق أن كثيرًا من هؤلاء المهاجرين يقودون دون رخص سارية؛ ليس لأنهم يتعمدون المخالفة، بل لأن الأنظمة لا تراعي لغتهم وثقافتهم.

بيتينا، مهاجرة من هايتي وصلت إلى أوهايو عام 2021، لم يسبق لها القيادة قبل مجيئها إلى أمريكا، لكنها اليوم تتلقى تدريبات قيادة باللغة الكريولية الهايتية، بفضل مبادرة محلية وفّرت أجهزة محاكاة حديثة ومدربين ناطقين بلغتها.

المدرب جوسو بيير، هو الآخر مهاجر هايتي، يؤكد أن المشكلة لم تكن في سلوك الهايتيين، بل في افتقارهم للتدريب بلغتهم الأم، وصعوبة اجتياز الاختبارات المكتوبة بالإنجليزية.

العنصرية تتقاطع مع السلامة

التقرير يكشف أيضًا استغلالاً سياسيّاً للأزمة، إذ تحوّلت حوادث مرورية ارتكبها سائقون هايتيون إلى أداة في الخطاب السياسي المناهض للهجرة، خاصة خلال حملة الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي شهدت عودة سياسات إدارة ترامب إلى الواجهة، ففي إحدى الحوادث المأساوية، توفي طالب يبلغ من العمر 11 عامًا صدمته حافلة يقودها رجل هايتي بلا رخصة سارية، ما أثار موجة من التحريض ضد الجالية الهايتية بأكملها.

وفي هذا السياق، يُسلط التقرير الضوء على مفارقة صارخة: مدينة سبرينغفيلد التي أحياها المهاجرون اقتصاديًا بعد الجائحة تُقصيهم اجتماعيًا من خلال سياسات إقصائية وأدوات قانونية غير منصفة.

ومنذ بدء البرنامج التدريبي باللغة الكريولية في ديسمبر الماضي سجّل أكثر من 100 مهاجر هايتي، وبلغت نسبة النجاح في الاختبارات نحو 90%، بحسب شركة تعليم القيادة المحلية.

يشمل البرنامج دروسًا نظرية وتدريبًا عمليًا داخل المدينة وعلى الطرق السريعة، ما أسهم في خفض عدد الحوادث من 598 إلى 542 حادثًا خلال أربعة أشهر فقط، وفق بيانات دورية الطرق السريعة في أوهايو.

التحديات لا تزال قائمة

لكن رغم هذا التقدم، لا تزال التحديات قائمة، فأجهزة المحاكاة المتاحة ليست مترجمة إلى الكريولية، كما أن بعض المواقع لا يتوفر فيها موظفون يتحدثون اللغة، ما يحدّ من الاستفادة الكاملة منها.

وكما يُشير ويتاكر، مالك مدرسة القيادة، فإن أجهزة المحاكاة أدوات مساعدة، ولا بديل عن القيادة الواقعية، ما يفرض الحاجة إلى دعم بشري وموارد تعليمية بلغات متعددة.

بين سرديتي "واشنطن بوست" و"الغارديان" تتقاطع مشكلتان تُختزلان غالبًا في لغة الأرقام:  الأولى، تتعلق بالإهمال المؤسسي في تدريب وتأهيل السائقين خاصة من المواطنين، و الثانية، تتعلق بتمييز مؤسسي ولغوي وثقافي يُقصي فئة مهاجرة كاملة من الحق في التعلم الآمن.

وما يربط بين القضيتين هو أن كلتيهما تُعرضان حياة الناس للخطر، وتحولان السلامة من حق أساسي إلى امتياز لا يحصل عليه إلا من اجتاز حواجز اللغة والثقافة والبيروقراطية.

الغرامات ليست الحل

ليس الحل في مزيد من الغرامات، كما يقول جوش ماكس، بل في تغيير جوهري لثقافة القيادة والتدريب والمحاسبة، ويشمل ذلك تحديث اختبارات القيادة، وربطها بمهارات حقيقية، وتوفير برامج تدريب بلغات الأقليات، ودمج تقنيات المحاكاة بشكل فعّال.

وإن الطريق نحو تقليل عدد القتلى لا يمر عبر صناعة السيارات وحدها، بل عبر تمكين كل من يقودها -سواء كان مواطنًا أو مهاجرًا- من التعلّم بلغة يفهمها، والقيادة بأمان، والمشاركة في الطريق على أساس من العدالة والسلامة والكرامة.

 

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية